تفسير سورة البقرة (18 )
143 – (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) الآية معطوفة على ما سبق من قوله تعالى {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} ، والتقدير : كما جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً ، كذلك جعلناكم أمةً وسطاً ، والخطاب للمسلمين ، يعني جعلناكم فصحاء بلغاء أذكياء ، لأنّ الوسط معناه الذكيّ والفاهم ، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة القلم {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} يعني قال أذكاهم وأعلمهم . ومن ذلك قول زهير :
هم وسطٌ يرضى الأنام بحكمهمْ إذا طرقت إحدى الليالي بعظيمِ
ثمّ بيّن سبحانه لأيّ سبب جعلهم أمةً وسطاً ، فقال (لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ) أي لتكونوا خطباء على الناس ومعلّمين ومرشدين (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) أي خطيباً ومرشداً ، فالشهيد معناه الجليس الذي يحضر مجلسك ويخاطبك وتخاطبه 1 والشهيد معناه الخطيب أيضاً ، ومن ذلك سمّي اللسان شاهداً ، يقال في المثل "ما له رواء ولا شاهد" أي ما له منظر ولا لسان . وقوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ) أي جعلناك تترك القبلة التي كنت عليها وتتّجه إلى الكعبة إلاّ لنعلم من يتّبع الرسول في ذلك مِمّن ينقلب على عقبيه ولا يتّبع (وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً ) أي وإن كانت تلك التحويلة من بيت المقدس إلى الكعبة تشقّ عليكم وتعظم لأنّ من تعوّد شيئاً يعظم عليه تغييره (إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ) أي ولكنّ الذين هداهم الله لا يشقّ ذلك عليهم لأنّهم يمتثلون أمر الله ويسمعون كلام النبيّ ويطيعون ما أمِروا به (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) أي وما كان الله ليضيع أجر تصديقكم وإطاعتكم أمر ربّكم ، حيث (إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) .
---------------------------------------------
1 [ومن هنا يتّضح المقصود من السيّد المسيح في إنجيل يوحنّا : "الذي يشهد لي هو آخر وأنا أعلم أنّ شهادته التي يشهدها لي حقّ 5 : 31 وأمّا أنا فلي شهادة أعظم من يوحنّا ، يريد المهدي أعظم من يوحنّا ، والآب الله نفسه الذي أرسلني يشهد لي 5: 37 ومتى جاء المعزّي الذي سأرسله أنا إليكم "يخاطبه ويشافهه ويجالسه " من الآب روح الحقّ الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي 15: 26 أي أنّ المهدي يحضره السيّد المسيح – المراجع]
144 – في بدء الأمر كره النبيّ أن يصلّي نحو الكعبة لأنّ الأصنام كانت تحيط بِها ، وأراد أن تكون صلاته خالصة لله ، ولئلاّ يتوهّم أحد من قريش أنه يسجد للأصنام ، فلذلك أخذ النبيّ يتّجه بصلاته نحو بيت المقدس ، وكان ذلك باختياره ولم يكن بأمرٍ من الله . وبقي على ذلك سنوات ، فلمّا عابت اليهود المسلمين في ذلك وقالوا لو لم يكن ديننا أحقّ من دينهم ما صلّوا نحو قبلتنا ، فحينئذٍ سأل النبيّ من الله أن ينزّل إليه أمراً في ذلك هل يبقى على قبلة المقدس أم يتّجه نحو الكعبة ، فلمّا صار الليل خرج النبيّ خارج المدينة وهو يقلّب طرفه نحو السماء منتظراً أن تنزل عليه آية في ذلك . ولَمّا لم ينزل عليه شيء في تلك الليلة رجع إلى داره ، وفي الغد نزلت هذه الآية (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ ) يا محمّد (فِي السَّمَاء ) لانتظارك الوحي في أمر القبلة (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ) أي فلنصرفنّك إلى قبلة ترضى بِها (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) أي حوّل وجهك نحو الكعبة (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ ) أيّها المسلمون من الأمكنة (فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ) أي نحوه (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ ) يعني علماء اليهود (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ) أي يعلمون بأنّ القرآن حقّ وهو منزّل من ربّهم ، لأنّ أمر تحويل القبلة مذكور عندهم وقد أخبرتهم بذلك رسلهم بأنّ النبيّ الذي يأتي آخر الزمان يصلّي نحو القبلتين ، ولكنّهم يخفون ذلك حسداً منهم (وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) أي عمّا يعمل اليهود مع محمّد من المكر والحسد .