تفسير سورة البقرة ( 29 )
213 – (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) فاختلفوا ، أي كانوا على ملّة واحدة ليس فيهم من يشرك بالله ، وذلك في زمن آدم ، فاختلفوا من بعده إلى مذاهب شتّى وأشركوا ، (فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ) بالجنّة لمن أطاعه (وَمُنذِرِينَ ) بالنار لمن عصاه وأشرك به (وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ ) يعني الكتب السماوية (بِالْحَقِّ ) أي بتبيان الحقّ (لِيَحْكُمَ ) كلّ نبيّ (بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ) من الأديان والمذاهب الباطلة ويرشدهم إلى دين الحقّ (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ ) أي في الكتاب (إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ ) وهم علماء الضلال من اليهود والنصارى وغيرهم الذين طلبوا الدنيا والرياسة (مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) أي وكان اختلاف هؤلاء العلماء في الكتاب بعد الذي جاءهم من البيّنات على صدقه ، وسبب ذلك الاختلاف كان (بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) أي حسداً بينهم وظلماً وطلباً للرياسة (فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ) إلى طريق الإسلام (لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ ) أي لِما كانوا مختلفين فيه من الحقّ ، والمعنى أنّ الله تعالى أوضح لهم الطريق حتّى عرفوا الحقّ من الباطل (بِإِذْنِهِ ) أي وكان هداهم إلى طريق الإسلام بإذنٍ من الله ، لأنّ الله تعالى أذن لملائكته فأرشدتْهم إلى ذلك بالإلهام والإيحاء ، وإنّهم كانوا أهلاً للهداية حيث لم يكونوا أهل تكبّر وحسد ، والله يهدي من يشاء ، أي من كان أهلاً للهداية (إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) يعني إلى طريق الحقّ .
214 – كان بعض من أسلم في زمن النبيّ لا يقومون بالواجب ولا ينشرون الدعوة ولا يجاهدون في سبيل الله بل اكتفوا بمجرّد القول حيث قالوا آمنّا ، فإذا سألهم بعض أصحابهم عن سبب امتناعهم عن الجهاد قالوا نخاف من الأذى والقتل ، فنزلت فيهم هذه الآية (أَمْ حَسِبْتُمْ ) أيّها المسلمون ، والتقدير: أظننتم أنّكم تثابون بمجرّد قولكم آمنّا دون أن تعملوا أم حسبتم (أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ ) يوم القيامة بدون عمل (وَلَمَّا يَأْتِكُم ) من الأذى والمحن تضجرون وتنفرون 1 ، فليس هذا عمل المسلم ، ألا تكونون (مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ) من المؤمنين في الأمم السالفة (مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء ) البأس هو الشدّة وجمعه بأساء ، والضرّ هو الفقر والمرض وجمعه ضرّاء ، والمعنى أصابتهم الشدائد بسبب الجهاد ، والفقر بسبب تركهم ديارهم وأموالهم في سبيل الله لأنّهم اتّبعوا رسلهم (وَزُلْزِلُواْ ) أي أزعِجوا وأوذوا فصبروا ونصروا (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ) أي يقول بعضهم لبعض (مَتَى نَصْرُ اللّهِ ) يعني يقول المؤمنون لرسولهم متى نصر الله ، فيقول الرسول في جوابهم (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) يعني يقول لهم اصبروا وسيأتيكم النصر عن قريب .
--------------------------------------------
1 [وهذه الآية يستمرّ حكمها كلّ حين ، وخاصّةً عند ظهور المهدي إذ تحتّم على الذين اتّبعوه أن يجاهروا بالدعوة ، بين أهليهم وفي محلاّتهم ، وفي تجوالهم ومنتزهاتهم ليلاً ونهاراً لأنّهم بذلك ينقذون نفوساً كثيرة من المروق من الإسلام ، ويحبّذون الإسلام لآخرين - المراجع ]
217 – إنّ رجلاً من المسلمين قتل رجلاً من كفّار قريش في أوّل يوم من رجب وكان قد اشتبه فيه هل هو من جماد أو من رجب ، وكانت العادة عند العرب أنّهم يتركون القتال في الأشهر الحرم ، فلمّا قُتِل رجل من قريش جاؤوا إلى النبيّ يسألونه على وجه الإنكار هل يباح القتال في الشهر الحرام ، فنزلت هذه الآية (يَسْأَلُونَكَ ) يا محمّد (عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ) يريد به شهر رجب (قِتَالٍ فِيهِ ) أي هل يباح القتال فيه (قُلْ ) يا محمّد لهم (قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) أي القتال فيه عظيم وذنب كبير (وَ ) لكن (صَدٌّ ) منكم أيّها المشركون (عَن سَبِيلِ اللّهِ ) أي عن دين الله ، وهو دين الإسلام أكبر عند الله من القتل في الشهر الحرام ، لأنّ المشركين كانوا يصدّون الناس عن دين الإسلام ولا يدعونهم يؤمنون (وَكُفْرٌ ) منكم (بِهِ ) أي بالله (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) أي وكفر منكم بالمسجد الحرام ، لأنّهم وضعوا الأصنام فوق الكعبة وكانوا يعبدونها (وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ ) يعني أهل المسجد وهم النبيّ والمسلمون (مِنْهُ ) أي من المسجد ، يعني إخراج المسلمين من مكة حين هاجروا إلى المدينة (أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ ) والمعنى أنّ أفعالكم هذه وكفركم بالله وفي المسجد الحرام أعظم عند الله من قتل رجل مشرك في الشهر الحرام (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) أي وإنّ افتتناكم الناس بالكفر وصدّهم عن دين الإسلام أعظم وزراً عند الله من قتل رجل مشرك . ثمّ أخبر سبحانه عن عناد هؤلاء الكفّار وتعنّتهم فقال (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) يعني أهل مكة والخطاب للمسلمين (حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ ) أي إنْ قدروا على ذلك ، وقد ارتدّ فريق من المسلمين بعد وفاة النبيّ فقاتلهم أبو بكر فرجع قسم منهم إلى دين الإسلام ثانية (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ) يعني فيموت على كفره ولا يعود إلى دين الإسلام (فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) أي ذهبت أعمالهم التي عملوها وقت إسلامهم أدراج الرياح ، أي خسروا نتائج أعمالهم ، أمّا في الدنيا فإنّهم أبدلوا حسن الذكر والشرف الذي نالهم في الإسلام بسوء الذكر والعار الذي نالهم عند ارتدادهم عن الإسلام ، وأمّا الذي خسروه في الآخرة فإنّهم أبدلوا الجنّة بالنار وحسن الذكر بالعار ومرضاة الله بغضبه (وَأُوْلَـئِكَ ) الكفار والمرتدّون (أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) أي دائمون في النار
منقول من كتاب