تفسير سورة البقرة (2 )
9 – (أَوْ ) مثَلهم (كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء ) أي كأصحاب الصيّب ، وهو السحاب الكثير الصوب ، والصوب هو المطر الشديد ، ومن ذلك قول الحسين (ع ) : "بين أناسٍ لا سُقوا صوب المزن" . والمعنى : أو مثَلهم كمثَل قومٍ أخذَتهم السماء بالسحاب والمطر والظلمة والبرق والرعد ليخوّفهم الله بالصواعق ويردعهم كي يرجعوا عن غيّهم ويتركوا طلبتهم التي ساروا خلفها يطلبونها ولكنّهم لم يرتدعوا بتلك الحوادث ولم يرجعوا عن غيّهم بل أخذوا يسيرون عند إنارة البرق ويقيمون عند الظلمة لأنّ سفرهم كان بالليل ، وذلك قوله تعالى [ في الآية التالية] : {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} وهم قوم فرعون ساروا في طلب موسى وقومه وكان مسيرهم ليلاً ، فردعهم الله تعالى بالمطر والرعد والبرق والصواعق فلم يرتدعوا بل ساروا في طلبهم حتّى أدركوهم صباحاً فأغرقهم الله في البحر وأهلكهم جزاءً لعنادهم ، فكذلك المنافقون من قومك يا محمّد إن لم يرجعوا عن غيّهم ويصلحوا أعمالهم فإنّ الله يهلكهم كما أهلك فرعون وقومه ، وذلك قوله (فِيهِ) أي في ذلك الصيّب يعني السحاب (ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم ) الضمير يعود لأصحاب الصيّب وهم قوم فرعون (مِّنَ الصَّوَاعِقِ) أي من شدّة الصواعق وأصوات الرعد (حَذَرَ الْمَوْتِ) أي خوفاً من أن يموتوا (واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) يعني لا يفوتونه مهما لزموا الحذر .
وإليك بعض آراء المفسّرين حول هذه الآية كي تقارن بين تفسيري وتفسيرهم .
آراء المفسّرين
عن كتاب مجمع البيان للشيخ الطبرسي المجلّد الأوّل صفحة 56 قال :
"مثَل هؤلاء المنافقين في جهلهم وشدّة عنادهم (كَصَيِّبٍ ) أي كأصحاب مطر (مِّنَ السَّمَاء) أي منزل من السماء (فِيهِ ) أي في هذا المطر أو السماء لأنّ المراد بالسماء السحاب فهو مذكّر (ظُلُمَاتٌ ) لأنّ السحاب يغشى الشمس بالنهار والنجوم بالليل فيظلم (وَرَعْدٌ ) وقيل إنّ الرعد صوت ملّك يزجر السحاب وقيل الرعد هو ملّك موكّل بالسحاب يسبّح ، روِي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وهو المروي عن أئمّتنا عليهم السلام ، وقيل هو ريح تختنق تحت السماء رواه أبو الجلد عن ابن عباس ، وقيل هو صوت اصطكاك أجرام السحاب ، ومن قال أنّه ملَك قدّر فيه صوتاً كأنّه قال فيه ظلمات وصوت رعد لأنّه روي أنّه يزعق كما يزعق الراعي بغنمه ، وقوله (وَبَرْقٌ ) قيل أنّه مخاريق الملائكة من حديد تضرب به السحاب فتنقدح عنه النار عن علي (ع ) ، وقيل أنّه سوط من نور يزجر به الملَك السحاب عن ابن عباس ، وقيل هو مصع ملَك عن مجاهد والمصاع المجالَدة بالسيوف وغيرها ، وقيل أنّه نار تنقدح من اصطكاك الأجرام ، وفي تأويل الآية وتشبيه المثَل أقوال أحدها أنّه شبّه المطر المنزل من السماء بالقرآن وما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء وبما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر وما فيه من البرق بما فيه من البيان وما فيه من الصواعق بما في القرآن من الوعيد آجلاً والدعاء إلى الجهاد عاجلاً عن ابن عباس ، وثانيها أنّه مثل للدنيا شبّه ما فيها من الشدّة والرخاء بالصيّب الذي يجمع نفعاً وضرراً وأنّ المنافق يدفع عاجل الضرر ولا يطلب آجل النفع ، وثالثها أنّه مثل الإسلام لأنّ فيه الحياة وشبّه ما فيه من الظلمات بما في أسلافهم من إبطان الكفر وما فيه من الرعد بما في الإسلام من فرض الجهاد وخوف القتل ولِما يخافونه من وعيد الآخرة لشكّهم في دينهم وما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم وموارثتهم ، وما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل .
ورابعها ما روِي عن ابن مسعود وجماعته من الصحابة أنّ رجلين من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله (ص) فأصابهما المطر الذي ذكره الله تعالى فيه رعد شديد وصواعق وبرق وكلما أضاء لهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما مخافة أن تدخل الصواعق في آذانهما فتقتلهما وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا فأقاما فجعلا يقولان يا ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمداً فنضع أيدينا في يديه فأصبحا فأتياه فأسلما وحسن إسلامهما فضرب الله شأن هذين الرجلين مثلاً لمنافقي المدينة وأنهم إذا حضروا النبي جعلوا أصابعهم في آذانهم فَرَقاً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء كما كان ذلك الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما وكلما أضاء لهم مشوا فيه يعني إذا كثرت أموالهم وأصابوا غنيمة أو فتحاً مشوا فيه وقالوا دين محمد صحيح وإذا أظلم عليهم قاموا يعني إذا هلكت أموالهم وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد فارتدوا كما قام ذانك الرجلان إذا أظلم البرق عليهما وقولـه: { والله محيط بالكافرين } يحتمل وجوهاً: أحدها: أنه عالم بهم فيعلم سرائرهم ويطلع نبيّه على ضمائرهم عن الأصم وثانيها: أنه قادر عليهم لا يستطيعون الخروج عن قدرته قال الشاعر:
أَحَطْنَا بِهِمْ حتَّى إِذَا مَا تَيَقَّنُوا بِما قَدْ رَأوا مَالُوا جَميعاً إلى السِّلْمِ
أي قدرنا عليهم وثالثها: ما روي عن مجاهد أنه جامعهم يوم القيامة يقال أحاط بكذا إذا لم يشذّ منه شيء ومنه أحاط بكل شيء علماً أي لم يشذ عن علمه شيء ورابعها: أنه مهلكهم يقال أحيط بفلان فهو محاط به إذا دنا هلاكه قال سبحانه { وأحيط بثمره } [الكهف: 42] أي أصابه ما أهلكه وقولـه: { إلاّ أن يحاط بكم } معناه أن تهلكوا جميعاً." انتهى .
أقول لو صحّ ما روِي عن ابن مسعود في أمر الرجلين وأنّ الله تعالى ضرب بِهما مثَلاً لَجاء سياق الآية والكلام على التثنية ، ولم يأتِ على الجمع فكيف وقد قال الله تعالى {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم} وقال أيضاً {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} ، وهم قوم فرعون ساروا ليلاً في طلب موسى وقومه حتّى أدركوهم صباحاً .