تفسير سورة البقرة ( 28 )
205 – (وَإِذَا تَوَلَّى ) عنك يا محمّد وأدبر (سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا ) أي أخذ يعمل في المكر والخديعة ليوقع العداوة والقتال بين الناس (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ) أي يهلك الزرع والأولاد بسبب الحرب والعداوة ، كما فعل بثقيف حيث كان بينه وبينهم خصومة فبيّتهم ليلاً وأهلك مواشيهم وأحرق زرعهم (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ) ويمقت من يسعى به .
206 – (وَإِذَا قِيلَ لَهُ ) أي لذلك المنافق (اتَّقِ اللّهَ ) ولا تفسد في الأرض (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ ) أي أوقعته العزّة في الإثم ، يعني حمله التكبّر على فعل الإثم ولم يمتنع عن الفساد (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ) أي كفاه عذاب جهنّم (وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ) الذي مهّده لنفسه ، يعني بئس المكان جهنّم الذي اختارها ومهّدها لنفسه .
208 – أسلم قوم من اليهود ثمّ حرّموا على أنفسهم لحم الإبل وذلك لِما اعتادوا عليه في اليهوديّة ، فأنزل الله فيهم هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ ) أي في الاستسلام والانقياد لأوامر الله (كَآفَّةً ) أي جميعها ، والمعنى : إنقادوا لجميع أوامر الله فلا تأخذوا بعضها وتتركوا الأخرى (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) أي ولا تلازموا العادات التي خطّها الشيطان وسنّها لكم (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) أي ظاهر العداوة .
210 – (هَلْ يَنظُرُونَ ) يعني هل ينتظر العذاب هؤلاء المكذّبون بآيات الله (إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ ) أي إلاّ أن يبعث الله عليهم العذاب في ظلل من السحاب كما بعث على قوم شعيب من قبلهم ، والظلل جمع ظلّة وهي السحابة (وَالْمَلآئِكَةُ ) أي ويبعث عليهم ملائكة العذاب فتقبض أرواحهم (وَقُضِيَ الأَمْرُ ) أي وحينئذٍ ينتهي بهم الأمر فلا توبتهم تقبل ولا يمكنهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا الصالحات ولا ينجيهم أحد من عذابنا (وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ) الأمر كناية عن المخلوقات الروحانية فكلّ قسم منها يسمّى "أمر" وجمعها "أمور" ، والمعنى : إلى الله ترجع نفوس البشر والجنّ وكلّ مخلوق أثيري فيحكم فيها ما يشاء ولا يحكم فيها غيره .
211 – إنّ قريشاً سألوا النبيّ أن يأتيهم بمعجزة مادّية فيصدّقونه ، فنزلت هذه الآية (سَلْ ) يا محمّد (بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ) أي كم أعطيناهم من معجزة واضحة تدلّ على صدق أنبيائهم فكفروا بها وكذّبوا . فإنّ موسى جاء بالعصا والمعجزات الأخرى إلى فرعون وقومه فلم يؤمنوا به ولم يصدّقوه بل كذّبوا وقالوا هذا سحر مبين ، فانتقمنا منهم وأغرقناهم في اليمّ . وإنّ عيسى أنبأهم بالمغيّبات وأحيا لهم الأموات وأبرأ الأكمه والأبرص وغير ذلك من المعجزات فلم يؤمن به اليهود بل كذّبوه وأرادوا قتله .
وهكذا باقي الأنبياء كلّ من جاء بمعجزة مادّية فإنّ قومه يكذّبون بها ويقولون هذا سحرٌ مبين . وكذلك أنت يا محمّد لو أعطيناك معجزة مادّية لكذّب بها قومك وقالوا هذا سحرٌ مبين ، ولكن الأحسن من ذلك هي المعجزات العلمية والأدلّة العقليّة التي أنزلناها عليك فادعهم إلى الإيمان بِها فهي تؤثّر فيهم أكثر من المعجزات المادّية . وذلك قوله تعالى في سورة النحل {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} . فقوله تعالى (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) يعني إذا لم يطمئنّ قلبك يا محمّد بهذا الجواب فاسأل بني إسرائيل كم آتيناهم من معجزة فكذّبوا بها وأبدلوها بالكفر (وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ ) بالكفر (مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ ) على لسان محمّد ، ويريد بالنعمة آيات القرآن والموعظة والهداية إلى طريق الحقّ فهي نعمة من الله على الناس وعلى الأنبياء أيضاً ولذلك قال الله تعالى في سورة الضحى مخاطباً رسوله : {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} أي حدّث الناس برسالتك ولا تخشَ أحداً (فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) لمن جحد بآياته وكذّب رسله